منذ قديم الأزل والإنسان ينظر للسماء ويسأل نفسه أسئلة كثيرة حول الوجود والفضاء والنجوم، حيث كان الإنسان البسيط يستهدي بالنجوم والقمر في ترحاله والشمس لمعرفة المواسم وحصد المحاصيل. كما كان أوائل البشر يعبدون الشمس لأنهم يعرفون أن حياتهم وغذائهم مرتبط بهذه الكرة المشتعلة، فأصبح الإنسان ماهرا في تتبع النجوم ورصدها ومعرفة الأبراج في السماء. تطور عقل البشر وتقدمت الحضارات وبدأت تتطور نوعية الأسئلة حول الكون والتي كان أهمها: هل الأرض مركز هذا الكون، أم أن الشمس هي المركز ونحن نطوف حولها؟. هنا تبدأ قصة الإجابة على هذا السؤال الكبير الذي كان السبب في تحول جذري في تفكيرنا وحياتنا وفهمنا للوجود.
كانت الكنيسة في روما متمثلة ببابا الڤاتيكان هي الحاكمة والمؤثرة منذ ألفيّ عام بسبب نفوذهم الديني وسلطتهم العسكرية، وكانت هذه الكنيسة تؤمن بنظرية فلاسفة اليونانيين التي طرحوها في القرن ال٤ الميلادي والتي تؤكد أن الأرض هي مركز الكون. وأضيف على النظرية طابعاً بدينياً بقول الرومان أن الإنجيل مذكور فيه أن الله أصطفانا وإختارنا لنسكن هذه الأرض، ولأننا مركز إهتمام الرب وعنايته فلابد أن تكون الأرض في مركز الكون. كان هذا المشهد العام والتفكير الدارج في معظم أنحاء الأرض رغم أن علماء العرب والهند وبعض اليونانيين كانت لديهم وجهة نظر أخرى تقول بأننا لسنا لا مركز الكون ولا مركز أي شيء وهذا ينطبق على الشمس أيضا. ولكن المشكلة الكبرى حينها أن كليهما لم يقوى على إثبات قوله بحجج وبراهين، وهنا الفاصل ونقطة التحول التي سأبدأ بها قصة الإجابة على هذا ذلك السؤال.
في مشارف القرن ال١٧ الميلادي كان يقطن في مدينة براق عاصمة التشيك الإمبراطور رودوف ال٢ (إمبراطور روما) الذي كان يملك فكر متنور وراقي في عصر ساده العنف والدماء. حيث كان يدفع ويستثمر أموالا طائلة لجذب طلاب العلم والباحثين أمثال الفلكي الألماني الفذ/ تيكو براهي، الذي يملك قدرة خطيرة في جميع بيانات ومواقع النجوم وبذلك كان أسلوبه علمي بحت يعتمد على الرهان لا التنظير فقط. قام الإمبراطور بإستثمار مبلغ كبير لبناء منصة فلكية مجهزة بكل تقنيات ذلك العصر، وعين تيكو كبير الباحثين فيه حيث أستمر الألماني في جمع بياناته لأكثر من٢٠ عام أخترع فيها الكثير من الأجهزة الفلكية لتحديد موقع القمر في السماء وغيرها من أدوات فلكية..
كانت أوروبا في ذلك الحين في حالة غليان وإنقسام بسبب الثورة التي قامت ضد الكنيسة الكاثوليكية متمثلة في إمبراطور روما وبابا الڤاتيكان، فنشأت حركة دينية جديدة تتبلور أفكارها حول دور الرجل المسيحي خارج سلطة النظام الكاثوليكي وتم تسمية الحركة الجديدة بالكنيسة البروتستانتية ومنبعها ألمانيا بقيادة مارتن لوثر. من حظ تيكو الذي ما زال يقطن براق أن مهاجرا ألمانيا آخر قد قاده القدر للنزوح إلى التشيك في١٦٠٠م بسبب الفوضى في ألمانيا، وهو عالم الرياضيات/ يوهانز كيبلر والذي سمع عن تيكو وإختراعاته الفلكية فقرر أن ينضم لفريقه. وفعالا وافق تيكو على قبول كيبلر الذي كان مكسورا محطما بسبب وفاة أبناءه الإثنين بألمانيا قبيل وصوله لبراق، ولكن من سوء حظ كيبلر أن تيكو مات خلال أول أيام عمله معه فأصبح هناك فراغ كبير بعد رحيل الفلكي العظيم. حينها قرر الإمبراطور رودوف تعيين كيبلر ليكون كبير الرياضيين وأحد المقربين له لقدراته الفلكية، مما أدى لإمتلاك الألماني كل البيانات والمعلومات التي جمعها تيكو خلال حياته وهذه ثروة عظيمة ستغير مجرى التاريخ. فقام حينها بإستخدام البيانات لمحاولة تطوير معادلات رياضية تفسر دوران الأرض حول الشمس، وأستمر ل٥ سنوات متواصلة كتب فيها مئات الصفحات من الحسابات والمعادلات الرياضية حتى توصل لتفسير منطقي فطرح معادلة مهمة تقوم بتفسر مدار المريخ حول الشمس والذي يعتبر أعتقد المدارات من بين كواكب مجموعتنا الشمسية. يضاف لذلك أن كيبلر هو أول من أثبت أن مدارات الكواكب بيضاوية وليست دائرية، وبذلك طابقت حساباته سجلات مواقع النجوم التي جمعها تيكو وكان هذا إنجازا عظيما هز المجتمع الفلكي والعلمي في أوروبا. بدأ النقاش عن كيبلر و قانون حركة الكواكب وأنها تدور في مدارات بيضاوية حول النجم، ولكن الجهل الذي كان يعم أوروبا حينها جعل منه أضحوكة لأنه تحدى أحد أهم المعتقدات السائدة ومات كيبلر دون أن تحوز أفكاره على أي إهتمام وتقدير.
كيبلر في اليمين و تيكو في الشمال
في ١٦٠٩م دخل في المشهد البروفيسور الإيطالي/غالاليو غالالي، حين نزل في البندقية ليعلن إختراعة لأداة يمكنها تكبير الأجسام البعيدة وكان يطلق عليه "لوحة التجسس الهولندي" او ما نعرف حاليا بالتلسكوب. قام غالاليو بجمع المواد لتصنيع هذا التلسكوب البسيط ومن حسن حظه أن ڤينيسيا في وقتها كانت مركز صناعة الزجاج بجودة عالية. فشرع بصقل الزجاج ليكون على شكل عدسة وثبته داخل أنبوب فكان تلسكوب غالاليو ذو العدستين من أهم الأحداث التي غيرت منظورنا للمجموعة الشمسية وللكون. بدأ بعدها غالاليو بدراسة ومراقبة القمر وتضاريسه فبرسم القمر بكل أحواله بدقة متناهية كما يتضح في الصورة.
رسومات غالاليو للقمر
كما ان غالاليو هو أول إنسان يرى كوكب المشتري والأقمار التي تدور حوله. حينها أضاف غالاليو إثبات جديد للساحة العلمية بأن هناك أقمار تدور حول المشتري ولا تدور حولنا، مما يعني أننا لسنا مركز للكوكب ولا لأقماره. قرر حينها غالاليو كتابة هذه الملاحظات ونتائجها وإستنتاجاتها الخطيرة في كتاب ونشره عبر الإستفادة من مكائن الطباعة التي كانت حديثه في وقتها. تم نشر كتاب غالاليو"الرسول المشع" في ١٦١٠م-الصورة-، فأحدث ربكة كبيرة وأشتهر غالاليو.
كتاب غالاليو الرسول المشع
ولكن الكتاب سبب له كارثة مع الكنيسة في روما. فلسوء حظ غالاليو أنه نشر كتابة في أوج الحرب بين الكنيسية الكاثوليكية والتيار التنويري. مما دعى البابا لإستدعاء غالاليو لإستتابته ومناصحته عن هرطقته التي نشرها. حصل ذلك وأُجبر غالاليو على المثول أمام البابا الذي أتهمه بالهرطقة تجاة الكتاب المقدس الذي يقول بأن الأرض هي مركز الكون والمجموعة الشمسية. ومن عارض ذلك سيقتل! فأضطر غالاليو حينها أن يتراجع عن كتابة "الرسول المشع"خوفا على حياته من الفناء. بعدها أعتزل الرجل العالم للدراسة والبحث حتى ظهر في ١٦٣٢م وأعلن صدور كتابة القنبلة والذي ظل على قائمة الكتب الممنوعة٢٠٠عام بعد أن جن جنون بابا الڤاتيكان بما خطته أنامل غالاليو في كتابه الجديد "المحادثة". كان الكتاب عبارة عن محادثة علمية بين شخصيتين الأولى تؤمن بأن الأرض مركز المجموعة الشمسية، بينا المحاور الأخر يؤمن بأن الشمس هي مركز النظام الشمسي وبالطبع فقد تغلب الثاني على الأول في ذلك الكتاب. في١٦٣٣م تم إحضار غالاليو لروما كي يمثل أمام محكمة التفتيش المكونة من كهنة الكنيسة الكاثوليكية. حاول غالاليو في المحكمة تنوير عقول الرهبان وشرح نظرياته ونتائجها ولكنهم رفضوا أن يقتنعوا بكلامه وهرطقته. فتمت إدانته بكل عنجهية وكبرياء وكان الحكم القاسي على غالاليو هو السجن المؤبد، ولم يراعى في ذلك لا سنه ولا حالته الصحية المتدهورة. فتم عزله في ڤيلا بمدينة فلورانس حيث قضى بقية حياته حتى مات في١٦٤٢م.
كانت هذه نبذة بسيطة ومختصرة عن تاريخ الإجابة على أهم الأسئلة في ذلك الحين: هل الأرض مركز الكون
كيبلر في اليمين و تيكو في الشمال |
رسومات غالاليو للقمر |
كتاب غالاليو الرسول المشع |
الايطالي غالاليو |
Comments
Post a Comment